جديدنا

مجلة فن | " كوليت السّورية . " قصة قصيرة كتبها علي عمار محمد




عليكِ أن تهدأي، لا شمع في الطريق، والكلاب تَكثُر كلّما اقتربتِ .

أمي! ..
اعتقد أنّها تبحث منذ خرجتُ ولم أعُد،
تُفتّش في زوايا القصر، وهي مهتاجةٌ ومحمومة ..

يا لخيبتها .. لقد أضعتُ قرطها الأخضر ! .

أشعر بالضيق، قدماي أضعف من أن أمشي كل هذه المسافة، لكنّني إن توقفتّ، فسأؤكل كالبقر المذبوح بسكينةٍ شرعيّة .

لن يُسمع صراخي .
ستُسَدّ كلّ الآذان .

سيري يصير أبطأ مع كلّ خطوة أخطوها بهذا الفستان، إنّه عائقي الوحيد في هذه الّلحظة .

الجنود في كلّ مكان، لقد كان قصرنا في حالة أكبر من السلام الذي افتقدته هنا ..
السيارات، أضواء المنازل، الناس، وحتى الطيور .

ضجةٌ .. ضجةْ .

_______________

" - هل تحملين أي شيء من الممنوعات؟ . "

في الحقيقة، ندمتُ على دخولي في البداية، لكن الفضول قد حلّ سجادته على تفكيري .

" داعش " . بالخطّ العريض .

هذه الكلمة، كانت كفيلة لتحريك سجاد الفضول فيّ، قطعتُ الشارع، وقابلتُ الّلافتة التي كُتب عليها ذلك الاسم الغريب، فجائني رجل أسود .

- هل تحملين أي شيء من الممنوعات؟ .
. لا .. أحمل نهداي فقط، سيدي! .

أخذوا نصف فستاني .
ومضيت .
___________________

اسمي كوليت، وأحمل تحت جلدي سبع أعوام من الخطيئة، وجهلاً عظيماً، بالأمور كلّها .

أنظرُ إليّ من بعيد . كيف لسيري أن يظلّ بطيئاً ونصف فستاني قد أُزيل؟ ..

بالرغم من غرابة كل الأشياء حولي، إلا أنني أراها أشياء عادية جداً ! .
مشيت كثيراً من الطرق، أدى بي أحدهم إلى حضن جندي غريب:

- هل أنتِ عذراء!! " قالها بتعجب وهو يبعد قدمي عن أختها " .

. لا يا سيدي! ، أنا كوليت! .

لم أكن أعلم ماذا يعني ب " عذراء " ، إلا أنني قلت له: أن أمي كانت تخطئ بي كل يوم، حتى أحمَرُّ وألقُفُ دماً كالماء، وأهلهل وجعاً حتى أصرخ: كفىٰ! ..

لكنّني طمأنتُه، فأمي لن تفتقدني، إذ أنه هنالك الكثير من " كوليت " في قبو قصرنا الجميل .

كانوا يسمونه " أحمد " ، وقد أبديت له وأنا مطروحة تحته أن اسمه جميل، لكنه تسمّر في مكانه ولم يقُم بأي فعل، واكتفى بسؤالي:
- كيف ظلّ الغشاء ؟ .

لم أُجِبه، ولا أعتقد أنّه كان ينتظر أي إجابةٍ منّي .

حفّ بندقيته الرماديّة بما بقي من فستاني،
وصرتُ عارية ..
وربما .. حرّة .

- إلى أين ستذهبين؟ . " صرخ أحمد بعدما قطعت مسافة لا بأس بها مبتعدة عنه " .

فأجبته بأنني ذاهبة كي أستحم في البحر، فقال أن لا بحر في دمشق، فقلت له أنه لا يعلم شيئاً إذاً، فلقد بكيت ألف نهر فيها ..
وقد تَجمّعوا ..
وصاروا بحراً .

- سامحيني . " صرخ مجدداً "
. على ماذا ؟ . " صرختُ "
- على تعريتك .. لكن لم يَكُن هنالك خياراً آخراً .

أرسلتُ له قبلة في الهواء، وتابعتُ السير .

____________

أحياناً، نحن ندفع ثمناً غالياً على أشياء كثيرة، وحين نصل إلى آخر الطريق، ندرك أنه ما من ثمن تبقى فينا حتى ندفعه على أي شيء، نحن نمضي، فقط نمضي .

علمت أنني كنت بين جنود سوريين، وعلمت أنني دفعت ثمني الأخير عندهم، كان كل شيء على قدرٍ كبيرٍ من الّلطافة، لم أحُسّ بوجعٍ حين دفعتُ الثّمن،
لكنه التهمني .. حين صرتُ هنا .

الناس في المدينة يتلفّتون على الأشياء العادية،
وأنا ! ..
أمشي بحريّة، والريح تصل إلى سائر جسدي العاري،

تعمَّدت عيون الناس بالعمىٰ .

________________

.. وصلت إلى مكانٍ يشبه نهاية الكوكب، جبلٌ كبير:

- ما اسم هذا الجبل ؟ " سألت عجوزاً كانت خلفي "
. هذا قاسيون.

أردتُ أن أسألها أكثر، لكنها عادت من حيث جاءت .
ربما شاهدَتْ من هي أجدر منها في عبور قاسيون .

سألت الجبل، ترى هل يريد أخذ قطعة أخيرة مني؟
هل؟
حاورت الصخور قبل أن أصعد " حتى لا يظن أنني صعدت بلا ثمن " ،
لكن لم يبق لدي أي ثمن،
سوى اسمي، وأنا .

__________________

حين تُلامسكَ ذرّة أثناء الهبوب .. رتِّل بدورانك مع مجراها.

أنت تصلّي، أنت تطاوع الطّبيعة ..

لقد مرّت، هذه النسمة، من فوق أشجارٍ كثيفة، من بين الغيوم
ومن فوق كل الحواجز .
لقد سارت، أبعد مما ظننتَه بكثير، حتى وصلتْ إليك، واستنشقتَها، واستنشقتَ تنهيدات ألف كائنٍ أو أكثر!

وعريّ كل البشر أمام الحقيقة .

تقلّصت تلك التّنهيدات وتلك الحقائق .. وارتقت نسمة.

- - - - - - - -

دمكَ المسفوك يسيل نحو المحرقة، هذه ليست نهايتك..

تبدو غريباً على نفسك .. أنت ظلٌ لحنين كل الناس ..
لا تُشبهُك ..

لست أنت الذي هنا، وليس أنت الذي تراه،
ظلّك .. هَمهَم، تحت التُراب، خدع التّفسخات وتسلّل منها .

- هل خانت الأجساد ظلالها حين ماتت ؟ .

_____________________

بعدما وصلتُ إلى أعلى قمة في قاسيون، أدركت أنني كنت ضحيّة، ضحيّة كل شيء .

أنا الوطن، وأنا الطفلة، وأنا الأم ..
وأنا السّوريّة .

أدركت أنني توفيت منذ الّلحظة التي خرجت فيها من قصر المدينة، وأن أحمد شهيداً منذ عامين، وأن داعش، منيّة كبيرة للكثير من " أحمد " .. و " كوليت " .

علمتُ أن كل شيء قد أنتهى، واستحال فيي عراء مخجلاً عند الكثير ..
لكنه عندي .. حرّيتي .

انتهى .

- علي عمار محمد .









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2016 مجلة فن | Faan Magazine | تصميم : عمر شهاب

صور المظاهر بواسطة Bim. يتم التشغيل بواسطة Blogger.